حكايات من تحت الربع
الحلقة رقم (1)
بيت الألفى
المقدمه
حارتنا
حارتنا مليانة جمال....بس يمكن عنينا مش شايفاه...
يابن بلدي حبها علشان تحبك...
ولازم تفرق بين بلدك وبين اللي ماسكينها...
أهداء
أهدى هذه الحلقات للأستاذه / أم تفيده فقد أوحت لى بفكرتها وفجرت مخزون الزمن ورحلة السنين لأكتب هذه الصفحات القليله عن حارتنا فى الزمن الجميل
البدايه
نزح والدى بأسرته من مدينة الأسكندريه عام 1940 بعد أن تعرضت المدينة للقصف الجوى الألمانى العنيف فى الحرب العالمية الثانية وأستقر به المقام فى مكان متوسط بين ضريح السيده زينب ومقام الأمام الحسين لشدة تعلقه بأهل البيت وأستأجر شقة فى بيت من البيوت القديمه فى الحى ويسمى ببيت الألفى الذى كان فى الأصل أمير مملوكى فر هاربا مع المماليك إلى السودان أثناء الحملة الفرنسية على مصر وظل هذا البيت فى عهدة الأوقاف حتى باعته لأحد التجار الذى قام بتقسيمه إلى ثلاثة شقق ليستأجر والدى شقة منهم
ولدت فى هذا القصر القديم وفتحت عيناى على رؤية الجمال والفن المصرى الأصيل ..فقد كان البيت يقع فى منتصف الحارة ومازالت أثار باب الحارة موجوده حتى الأن ..بعد أن هدم نابليون جميع أبواب الحارات فى ثورة القاهرة الثانية ليمنع مقاومة المصريين من داخل الحوارى
البيت أو القصر كان يقع على مساحة كبيرة من الأرض تصل إلى 2500 م مربع وملحق به حديقة بها أشجار وزهور لها رائحة جميله تعبق المكان
البوابه : كانت من خشب السنط الضخم تصل أرتفاعها إلى 7 أمتار مزينه بالأويما الدقيقة الصنع وعلى الباب يد أو قبضة حديديه للطرق بها ليفتح السكان وتغلق بوابة هذا الحصن ليلا وتحتاج لأشد الرجال لفتحها وأغلاقها ومع الزمن ظلت مفتوحة على مصراعيها بعد أن صدأت مفصلاتها
الحارة : كانت يغطيها البلاط المربع من الحجر الجيرى الصلد الذى يسمى بالحجر المعصراوى الذى يقطع من تلال طره والمقطم لكسوة الحوارى وبناء المساكن واستخدام مادة تسمى (الأوسرميل) كرابط بدل الأسمنت فى البناء وهى عبارة عن تراب أسود ناتج من حرق القمامه فى مستوقدات الفول المدمس وهى مادة أشد من الأسمنت عند أختلاطها بالماء والرمال
والمستوقدات هى عبارة عن أفران تحرق فيها القماماة بطريقة معينه كنظام القمائن بحيث لاينتج عنها دخان مطلقا حريق ذاتى وتدفن فى داخلها قدور الفول المدمس لتستوى على نار هادئة وفى نفس الوقت تستغل الطاقة الحرارية الناتجة من هذا الحريق فى تسخين ماء المغطس للحمام البلدى الملاصق له
ولنا حلقة خاصة عن الحمام البلدى الذى أنقرض ولم يتبقى منه غير حمامين فقط فى القاهرة كلها من مجموع 400 حمام
نرجع للحارة فقد كانت نظيفة وكل بيت يقوم بكنس ومسح هذا البلاط أمامه ومن جماله ونظافته كنا نجرى عليه حفاة ونفترشه فى الليل أو فى قيظ الصيف
نحن نتحدث عن القاهرة فى الأربيعينات وليس بلد أوروبى ..وكان معظم البيوت لا يزيد عدد طوابقها عن دورين ولكن فى ارتفاعها تعادل عمارة مكونه من 6طوابق الأن.. وجميع شبايبكها عليها المشربيات الخشبيه ومن خلفها المشغولات الحديديه الأنيقة فلا يمكن باى حال من الأحوال أن يستطيع جار أن يجرح جاره وهذا يسمح للحريم أن يتحركن بحريه داخل البيت..وكانت الحارة كلها أسرة واحدة يجمعها الحب والود فما بالك بالجيران فى البيت الواحد فكانوا أكثر من أهل ولا نغلق باب شقتنا ألا قبل أن ننام وتقوم أمى بالأستأذان من جارتها قبل أن تغلق بابها وتسألها أن كانت فى حاجة لشيئ ثم تدخل بعد أن تلقى عليها تحية المساء
وكانت الملاية اللف المصرية والبرقع ذو العروسة الذهبيه هو الزى الشعبى للمرأة المصريه فى القاهرة تغطى به رأسها وزراعيها وكامل جسدها
وعلمت من أمى بأن لى فى الحارة أخوة وأخوات فى الرضاعة منهم أخ وأخت من السودان وثلاث بنات من الشام وغيرهم..ظاهرة غريبه كانت سائده فى الحارة المصريه القديمه ولذلك عشنا معا يجمعنا رابط الأخوة والرضاع ومن هنا تولدت شهامة أبن البلد وغيرته على بنات وستات حتته فهو أخ وأبن وأب لهن جميعا ..يا أيها الزمن الجميل ليتك تعود
يتبع
الحلقة رقم (2)
فوق السطوح
البيت كان رحب واسع فالأسقف يصل أرتفاعها إلى 9 أمتار مغطاه بألواح خشبيه
مدهونه بالزيت واللون الفيروزى الهادئ وعليها نقوش بديعة لزهور وأشكال هندسيه لفنان محترف.. فعندما تنام وتنظر إلى السقف تتوه فى عالم من السحر والجمال أما النوافذ فكانت عريضه يصل سمك الحائط إلى 60 سم ومرتفعة ومصنوعة من الأرابيسك ويصل أرتفاعها إلى 3 متر وعرضها إلى متر ونص
والحوائط مغطاة بالجص ( المصيص ) وتحتها شبكة خشبيه تسمى بغدادلى تبتعد عن البناء الحجرى ليتخللها الهواء وهو تكييف طبيعى أبتكره القدماء قبل أن تعرف أجهزة التكييف اللعينه وماتسببه من مشاكل صحيه ..فكنت تشعر داخل الغرف بالونسه والراحة والهدوء فالحوائط لا ينفذ من خلالها الصوت وقد غطت أرضيات الشقة بالكامل بالرخام المصرى الأشهب الذى رص بأناقة وفن بالتبادل مع الرخام الأسود وجميع الممرات داخل البيت مغطاه بالبلاط المصنوع من الحجر الجيرى اللامع أما الحمام (فهو بيت راحة على حق ) فحوائطه من القيشانى البديع أما سقف الحمام فهو حكاية ينتهى بقبه كبيره مغطاه بالزجاج الملون المعشق وعندما تسقط عليه الشمس باشعتها يعطى منظر بديع خلاب بمختلف الألوان قمة الشاعريه فى الحمام تجعلك لا تعانى من مشاكل الهضم والأخراج وتستمتع بدش دافئ فى الشتاء وبارد فى الصيف كيف ؟؟ لا أعرف حتى الأن
وكانت لى حادثة مازلت أذكرها حتى الأن وأنا طفل فى الخامسة من العمر عندما صعدت فوق السطوح وهو المكان المفضل لجميع أطفال البيت وكان سطوح غير طبيعى فهو عبارة عن عدة أسطح تختلف فى المستويات وكل مستوى يرتفع عن الأخر بـ1.5م فصعدت إلى المستوى الأعلى بالأستعانه بالحجارة وبعض الصناديق لأصل لأعلى مستوى فوجدت قباب الحمامات الزجاجيه الملونه فنظرت من خلالها فوجدت أم محمد جارتنا وهى تحمى الواد محمد الأقرع كما كنا نسميه ..وعندما أنبطحت على القبه الزجاجيه لأتفرج عليهما أغلقت مسار الضوء عن الحمام فتنبهت أم محمد لوجودى فرقعت بالصوت وخرجت لتبلغ أمى وكانت علقة ساخنه لا أنساها من أبى رحمة الله عليه وكلمة عيب مازالت عالقة فى ذهنى حتى الأن .. شقاوة عيال هذا كان رد أمى وأعتذارها لجارتها العزيزه
ولم أسلم من تقريع الشيخ مأمون الذى يحضر لبيتنا كل جمعة ليقرأ القرأن وفى نفس الوقت هو ناظر الكُتاب الذى يحفظنا أياه فى السبيل الموجود أمام ضريح السيده زينب وهو ما سنتحدث عنه فى أحدى الحلقات عن السبيل والتكيه والحمام البلدى وهذه من معالم القاهرة التى أندثرت وأختفت بماتحتويه من أثار وتاريخ
وكان السطوح فى الصيف المكان الوحيد الذى بجمع سكان البيت وأصدقائهم فتراهم يفترشون الأرض فى دوائر فالسيدات والأمهات لهم مجلسهم الخاص والبنات والشباب منفصلين فى مجلسهم ثم مجلس الحكماء من الأبهات والأجداد أما الأطفال فيتجمعون فى حلقة واحدة ويستمعون للحواديت والحكايات وتستمر هذه الحلقات طوال ليالى الصيف لتزداد الألفه والحب بين الجميع حتى يداعب النعاس الجميع فيأوى كل إلى شقته لينام قرير العين مرتاح البال
كهربة الترماى
الأضائة ليلا كانت تعتمد على الفوانيس والكلوبات فالكهرباء لم تدخل لمعظم أحياء القاهرة وهى مكلفة جدا لتوصيلها للفقراء
ولكن فتوات وهلافيت الحارة وأشقيائها تمكنوا من أضائة بيوتها بطريقة غير شرعيه فقاموا بسرقة التيار الكهربى من شبكة الكهرباء المغذيه للترماى وبما أن هذا التيار جهده عالى جدا ولا يصلح لأضائة البيوت فقد تمكنوا فى عمل محّوُل خاص ليخفض الجهد إلى 220 فولت وأحتفظوا بهذا المحول فى مأذنة أحد المساجد المهدمة بالحى وأسسوا شركة خاصة لتوزيع التيار المسروق على سكان الحارة وأمتدت شبكة التوزيع من بيت لبيت من فوق الأسطح
(فكرتنى بوصلات ART والدى أس أل فى أيامنا هذه)
وظلت الحارة مضائة لسنوات وكل ساكن يدفع 30 قرشا شهريا للمعلم مقابل كل لمبه يضيئها فى بيته ويحسب الراديو الكهربى لمبه أيضا فلم يظهر وقتها الراديو الترانوستور أبو حجارة..وتنبهت الحكومه لما يحدث على مستوى أحياء القاهرة
وعدم مقدرة الترماى على السيرفقامت بعمل الكبسات المفاجئه على الشوارع ولكن الفتوات كان لهم عيونهم المنتشره فى كل مكان وعند قدوم الكابسة يفصل التيار من المحول ليسبح الحى فى ظلام دامس فلا يستطيع مخلوق أن يدخل الحارة .. وعند أنقطاع التيار تسمع أصوات الرجال والنساء والنضورجيه وهم ينادون بصوت مرتفع كابسه.. كابسه وعندما يغادر البوليس الحى تسمع كلمه أمان.. أمان ولع النور ..حتى تمكنت المباحث من القبض على أفراد العصابه ولكنهم ظلوا يبحثون عن المحول العجيب الذى يحول تيار الترماى للبيوت حتى توصلوا له فى المأذنه وكانت مفاجأة أن وجدوا الواد حمكشه الكهربائى ملتصق بالمحول بعد أن صعقه التيار الكهربى فى الظلام وأنتهت عصابة حمكشة وفتوات الحى بعد أن قامت الحكومه بمد شبكة كهربائيه وبأسعارمخفضه للجميع كانت أيام
أبو العلا وترابزين السلم
وبداخل هذا القصر العديد من السلالم منها الخشبى والحجرى والرخامى وكل منها يؤدى إلى جناح خاص وجميعها تنتهى بالبهو الواسع وكنا نسميه الحوش وعلى أجناب هذا البهو عدد من الصالات الملحقة كانت للحريم والرعيه ولكن صاحب البيت قام بتقسيمها لشقق فأفسد جمالها بالطبع.. وكان سلمنا خشبى مصنوع من الزان وله كابيسته ناعمة كالحرير من خشب الأرو وكنا نتزحلق عليها بسهوله للوصول للدور الأرضى
وجاء أقارب والدى فى زيارتهم السنويه من الصعيد وهى تستمر لمدة شهرين بالتمام والكمال ..تبدأ من قبل مولد السيده حتى مولد الحسين وبما أن البيت كبير فكان يساع من الحبايب ألف فيهجمون علينا كالتتار بأبنائهم وزوجاتهم وبعض من جيرانهم فى البلد كل عام وهم محملين بزياره تحتوى على الكشك الصعيدى والعدس والفول والحلبه والطيور وغيرها من خيرات الأرض.. عشرات من القفف والسلال التى يجب أن تعود مملوئه برد الزياره من شاى وسكر وأرز ومعكرونه كما يسمونها ومختلف أصناف البقاله وكانوا بالطبع يستهلكونها فى خلال الشهرين وهم لا يشكلون عبئا فى النوم بل يفترشون الصالات الواسعة داخل الدار أما الأكل فتقوم أمى ومعها سيدات الضيوف والجيران بالطبيخ يوميا لهذا الجيش الصعيدى المحتل مستعينين بالوز والبط والفراخ التى يحضرونها معهم ..ووالدى سعيد بقبيلته وأهل بلدته الأعزاء ونحن نعد الأيام والليالى ليرحلوا لننعم بالهدوء.. ونرتاح من رائحتهم المميزه نتيجة أكل البتاوى المصنوع من دقيق الذره ولكن هيهات فالزيارات لا تنقطع طوال العام هذا للعلاج وهذا للجيش وأخر للنزهة
وكان ضمن هذه القبيله أبو العلا وهو أبن أبن عم أبى شاب لا يتعدى عمره 16 عاما ومعه عروسته فطومه التى حضرت خصيصا لتزور السيده والحسين ولتدعو الله أن يرزقها بالخلف الصالح .. وكانا العروسين لأول مره يزورا القاهرة ودائما ما يضلوا الطريق إلى البيت فيمكن أن يحضرا بعد يومين أو ثلاثه عن طريق قسم البوليس حتى خرجا فى يوم سويا لزيارة سيدى على زين العابدين بالقرب من المدبح وفى وسط المقابر.. ولكن عاد أبو العلا منفردا دون فطومه فسأله والدى : مراتك فين يا أبو العلا ؟؟.
- هي لسه ماجتش ؟؟.. أصل أحنا ياعمى توهنا فى التورب وطلعنا فى حته تانيه خالص أن نعرف نرجع البيت ما عرفناش .. فقلت لها أنت تدورى على البيت من الناحية دى وأنا أدور عليه من الناحية التانيه ماتخافش ياعمى أنا قولت لها لو تاهت تسأل عن القسم فين وتروح تسلم نفسها
- فالح يا أبو العلا.. دول حفظوكوم يا بنى فى القسم
وتعود فطومه فى أخر النهار مع العسكرى مثل كل مره ولكنها كانت تبكى بحرقه
بعد أن ضحك عليها عساكر الكراكون من سذاجتها
وفى هذه المعمه لا حظنا أن أبو العلا يراقبنا ونحن نتزحلق على الترابزين وهو سعيد فطلب منا أن يجرب الزحلقه هو الأخر فشمر جلبابه وخلع مداسه وركب فوق الترابزين وتزحلق وهو لا يصدق نفسه.. فعجبته هذه اللعبه وفى الليل بعد أن هدأ المكان أخذ أبو العلا فطومه لتلعب معه على الترابزين وظل يتزحلقان حتى الفجر.. هو دور وهى دور ولكن فطومه ركبت الترابزين ومازال أبو العلا فى المنتصف فأصطدمت به فطومه وتقع فوقه بكل ثقلها على رأسه التى إصطدمت بالأرض فيغمى عليه فتخاف وتجرى وتنادى على والدى وتهمس فى أذنه (ياخال.. أبو العلا مات ياتلحقه يا متلحقوش )
يهرع الجميع حيث كان العريس ملقى على الأرض وهو ينزف من رأسه ويتم أسعافه وأفاقته وبمجرد أن يسترد وعيه يبحث عن فطومه ويقوم بلطمها على وجهها بعنف ويرمى عليها يمين الطلاق :..أنت طالق يادموسه يابنت الداموسه جولت لك أستنى لما أتزحلق الأول وأوصل للأرض وبعدين تركبى كنتى حتموتينى يابجره يابهيمه
طبعا لم يتمالك أحد نفسه من الضحك وأصبحت حكاية أبو العلا وفطومه الحديث الضاحك لأهل البيت يتذكرونه على مر السنين ويضحكون من قلوبهم كأنه حدث بالأمس ..كانت أيام جميله كلها بساطه وحب.. والضحك فيها كان ببلاش
يتبع
الحلقة رقم (4)
مرسى الزناتى أتهزم يامنز
حوارى القاهرة القديمه لها مجالس أدارة تديرها وتحمى سكانها من الحرامية والقطاعين ويتكون هذا المجلس من ثلاثة أشخاص من المعلم أو الفتوه سميه ماشئت ونائبه وشيخ الحارة وصبيه الذان يلبسان فى العاده جاكيتة على الجلابيه والطربوش وكان صوته جهورى وهو ينادى على المطلوبين للقسم وكان بوليس العاصمة معترف بهذا النظام الذى يحفظ الأمن العام ويسهل فى حل الكثير من المشاكل
المعلم مرسى فتوة حارتنا رجل طول بعرض وصحة وعنفوان مثال للرجوله المفرطه يكفى منظره وهيئته ليحفظ الأمن والطمأنينه فى قلوب الرعيه ويبعث فى قلوب الأعداء الرهبة والخوف ..ولم نسمع عن الأتاوة أو الأستقطاع فالمعلم يكسب قوت يومه من المقهى الوحيد فى الحاره الذى يمتلكه وهو مجامل لجميع أبناء حتته وله كلمه مسموعة عند مأمور القسم
فلم نرى البوليس ألا فى شكل عسكرى الدوريه وهو يقطع الحارة ذهابا وأيابا فوق عجلته ليحافظ على الأمن وغالبا مايكون من سكان الحى ويعرف جميع سكانه( وهذا العسكرى أختفى من القاهرة وظهر مكانه العسكرى أبو بريزه وجندى الأمن المركزى الذى نشاهده فى الأستاد وعلى أبواب الجامعات والتشريفه الممتده من العباسية حتى مطار القاهرة )
فى مولد السيده والحسين نشاهد المعلم مرسى وهو يقود الزفه من فوق صهوة حصانه الأبيض كفارس من العصور الوسطى وهو يرفع شومته بدلا من السيف ويركب أمامه طفل صغير من أبنائه ومن حوله زوجاته وهم يرشونه بالملح ويطلقون البخور ومن خلفهم الطبل والزمر والدفوف والبيارق الخضراء ويطوف الحارة والحوارى المجاوره حتى ينتهى به المطاف أمام حوش منزله فينحر الذبائح ويوزعها بنفسه على الغلابه والمحتاجين..وهو مداوم فى حضور الأفراح والمآتم لأبناء الحى ليجامل الجميع
ولا يتخلف المعلم عن الحضور لفض أى مشاكل المشاجرات والطلاق والكل يقبل بحكمه العادل.. وكبر المعلم مرسى وعَجِز ولكنه كان محتفظ بقوته وصوته الأجش الذى لو سمعناه ونحن أطفال نفر من أمامه هاربين .. حتى كتبت نهاية المعلم المرسى فى أحدى المشاجرات بينه وبين الصعايده المقيمين فى أخر الحارة ويمتلكون فرن للعيش يعمل به عشرات من أبناء بلد واحده فى سوهاج.. وسبب المشاجرة تعدى أحد الصعايده على سيده من سكان الحارة بالقول فذهبت وأشتكت للمعلم مرسى ماحدث
فيقوم من فوره كبير الحتة وحاميها من على دكته المفضله أمام القهوة ويشمر ساعديه ويحمل نبوته الشهير ويسير ومن ورائه العشرات من رواد القهوة وأبناء الحارة ويتجه إلى الفرن ويأمر السيده بأن تحضر الصعيدى الذى سبها وتضربه بالقلم على قفاه
وهاج الصعايده وماجوا فلا يجوز لحرمه أن تضرب رجل ولكن المعلم أصر على تنفيذ هذا الحكم وألا سيتم هدم الفرن على من فيه فهاج الصعايده أكثر وأكثر وأحضروا الشوم والعصى ليتصدوا للمعلم مرسى الذى صرخ فيهم كالوحش الجسور وهجم عليهم كالأسد الكاسر بصرف النظر عن بلوغه السبعين من عمره فقد طاح فيهم بالنبوت فتسمع الصرخات والأنات وطرقعات العظام ..ودخل ورائهم الفرن وهو يضرب فيهم فتكاسروا عليه ونزلت نبابيتهم على رأسه الضخم وهو يقاوم حتى ركع على قدميه وهو يزأر كأسد جريح وفى النهاية تتوقف الحياة ويموت المعلم مرسى وهو يدافع عن عرض وكرامة سيده من أبناء حارتنا ويصل نبأ موت المعلم مرسى لجميع سكان الحارة فى سرعة البرق فيهب الجميع عن بكرة أبيهم ويهجمون على الفرن ويقتلون ويجرحون الكثير من الصعايده الدخلاء الذين هربوا خارج الحارة خوفا على أرواحهم فيتم حرق وهدم الفرن
وتسويته بالأرض ..ويحضر البوليس والأسعاف والنيابه فى النهاية لأنقاذ المصابين ونقل القتلى وأجراء التحقيق والفاعل مجهول
وبعد يومين يتم عمل أكبر سرادق بطول الحارة وعرضها للتعزيه فى وفاة المعلم مرسى وتخرج جنازته ويحمل نعشه على أعناق أبناء حارتنا وهم يبكونه رجالا ونساء وأطفالا
رحم الله المعلم مرسى.. ومن بعده أصبحت حارتنا بدون فتوه أو معلم فلم يجروأ أنسان أن يجلس فى مكانه ولو حتى أكبر أبنائه ولكن ظلت قهوته مفتوحه حتى الأن وفيها صورته معلقة فى أحد الأركان وكل من يشاهدها يترحم على هذا البطل ..وتمر السنوات ويقوم المعلم أبو سريع الفص صاحب محلات العلافه بفرض سيطرته على الحاره كخليفة للمعلم مرسى بعد أن رشحه الجميع ليشغل هذا المنصب الرفيع ولكن هيهات فقد ذهب وولى عصر الفتوات بعد أن دخل الحارة سكان جدد من الأقاليم ولتدور عجلة الزمن وأختفت معها الفتونه والفتوات للأبد
العصر النحاسى وحرامى الحله
حرامية زمان كانوا غلابه قوى ولا يجدوا مايسرقونه من بيوت سكان الحارة غير الحلل النحاسيه أو الغسيل من على الأسطح ..فكان النحاس من أغلى المعادن بعد الذهب فى ذلك الوقت
ولا توجد عروسه ألا ويكون نحاسها فى المرتبه الأولى فهو فخرها وسندها وهو يشمل الحلل والطشوت والأطباق وباقى الأوانى وكلها من النحاس الأحمر اللامع الجميل..ويوم زفة العروسه يعرض هذا النحاس على عربية كارو كنوع من الفخر والمبهاه أمام الأهل والجيران فى الحاره
ونحاس البيت ثروة كبيره يأتى بعد الكردان والحلق المخرطه والخلخال بالنسبه للمرأة المصريه لغلو ثمنه وأرتفاع قيمته وعندما يضيق بها الحال فتبيع حلة أو طشت أو ترهنهما ..وبالتالى أصبح النحاس هدف ومطمع للحراميه فعندما يسطو على بيت ولم يجد به مال أو ذهب يدخل المطبخ ويجمع النحاس ويهرب به
وغالبا مايأتى الحراميه من الحوارى المجاوره.. وهذا لا ينفى من وجود حراميه تسكن فى حارتنا ولكن بينهم وبين سكان الحارة ميثاق عمل وعهد غليظ للمهنه فلا يجوز أن يقوم الحرامى بسرقة أبناء حتته ومن يظبط ينفى خارج الحارة بعد أن يأخذ الطريحة والزفه المعهوده وهى أن يضعوا على رأسه حلة نحاس ويضعوه فوق حمار بالمقلوب ويلفوا به جميع الحوارى ( أشتركت أكثر من مره فى هذه الزفه وأنا طفل وأنا أهتف مع الأطفال :حرامى الحلة عمره ما حيتهنى هيه هيه)
وينال الحرامى عقابه من الجماهير أولا ...وفى نهاية يتم تسليمه فى الكاركون ليأخذ القانون مجراه
ويعد النحاس فى قيمته فى ذلك الوقت ما يعادل التليفزيون الفلاتن وباقى الأجهزة الكهربائية الأن التى يسرقها لصوص المنازل
وأختفى النحاس وحل مكانه الألومنيوم وكان فى بداية ظهوره رخيص الثمن ووصمة عار للعروسه التى تدخل ومعها حلة ألمنيوم
والنحاس دائما على أهل العروس هو والتنجيد وثمنهما يعادل تقريبا ثمن غرفة النوم فى ذلك الوقت ....وعندما تفشل الزيجه تحمل الزوجه نحاسها فوق رأسها لتعود إلى بيت أبيها لتقول له : حططنى يابه !!
ويباع النحاس بالميزان وتشترى العروس حسب ثرائها من قنطار أو قنطارين منه فتجد عند بائع النحاس ميزان قبانى يضعه خارج المحل.
وكانت مهنة مبيض النحاس منتشرة فى ذلك الوقت وأنشئت ورش ومحلات مخصوص لتبييض النحاس وأصلاح النحاس المخروم
ومازال حى النحاسين موجود بالقاهرة القديمة حتى الأن ولكنه تطور مع الزمن وأصبحت مهنة الطَرَقّ على النحاس وعمل المشغولات الرائعة سمه تميز هذا الحى ومزار سياحى شهير تعرض تحفه فى خان الخليلى
وتحول الهون النحاسى الشعبى إلى أنتيكه توضع فى الصالونات الفخمه بعد أن كان يستخدم فى دق الكفته والتوابل وسبوع المولود ليصهلل بجانب أذنه ليسمع كلام أبوه وكلام أمه وكلام الحكومه ومايسمعش كلام مراته
وشُوهِت سمعة النحاس عن عمد ليحل مكانه معدن الألومنيوم والأدعاء بأنه السبب فى التسمم بصدأ النحاس القاتل والحاجة المستمره للتبييض والنظافة الدائمه فكانت السيدات تتفاخر بحللها النحاسيه التى تبرق كالذهب
ونزل النحاس من على عرشه ليعتلى عرش التحف واللوحات والأنتيكات
ومن العجيب أن قدماء المصريين أكتشفوا النحاس منذ آلاف السنين وصنعوا منه الحلى والأثاث والأطباق وأستخدموا أكاسيده فى العلاج والدواء ودخلت فى مواد الطلاء.. ومصر هى الدوله الأولى فى التاريخ التى أستخرجت النحاس من باطن الأرض وصنعت منه التحف وأدخلته كوسيط ممتاز مع الذهب وباقى المعادن
وقد صنعت الأسَِره من النحاس وكنا نمتلك سريرين من النحاس الأصفر غاية فى الأبداع والمنظر الجميل ثم أختفت هذه الموضه الشعبيه لتظهر اليوم فى غرق نوم البهوات والعائلات الغنيه.. ويباع السرير النحاسى بآلاف الجنيهات ويعتبر تحفة تتوارثها الأجيال.... وقد رفضت والدتى بكل حزم أن نبيع سريرها النحاسى ونستبدله بغرفة نوم خشبيه ولكن للأسف بعناه بعد وفاتها.. ونحن نتحسر اليوم على بيع هذه الثروة العائليه الغاليه
ويعانى الألومنيوم اليوم من أزمه خطيرة ربما تقضى عليه هو الأخر ليشرب من الكأس التى أذاقها للنحاس منذ 50 عاما وجارى أسائت سمعته هو الأخر ليحل محله الأستنليس ستيل والتيفال والصاج.. والمعادن كالدول تظهر وتزدهر وتزول وتختفى ..فهل الزمان سيعود مرة أخرى ويتربع النحاس على عرشه من جديد ويعود حرامى الحلة بدلا من لصوص البنوك
ههههههههه
يتبع
الحلقة رقم (6)
أفراح حارتنا
الحارة المصريه القديمه لا تنقطع منها الأفراح سواء كانت أفراح خاصة مثل الزفاف والطهور والحج والسبوع أو أفراح دينية مثل أفراح رمضان والعيدين
وعشوراء أو موالد أولياء الله الصالحين التى لا تنقطع طوال العام فتبدأ بمولد
سيدى أبو الحسن الشاذلى ثم مولد النبى فسيدى على زين العابدين- فاطمه النبويه- فخر الدين –وسيدى إبراهيم..مولد سيدى جعفر فمولد أبو العلا والسيده والحسين والسيد فاطمه الزهراء والسيده سكينه والسيده نفيسه والأمام الشافعى
ولو أستمرينا نعد فى الموالد فلن ننتهى وهى موزعة على طوال أشهر السنه ومن الطريف أننى عندما كنت أعمل فى أسوان وجدت مقامات لجميع الأولياء مثل السيده والحسين والسيد البدوى وغيرهم ويحتفل بها أهل الجنوب فى نفس توقيتاتها بدلا من السفر فهنا فى أسوان نسخة مصغره لتفى بالغرض أبتكرها عباقرة الدراويش للتوفير فى مصاريف السفر وبالرغم من هذا فهم يأتون إلى القاهرة لزيارة النسخة الأصلية وعلى رأى المثل الشيخ البعيد سره باتع
ومن أجمل الليالى التى تقضيها الحارة المصريه الليله الكبيرة لمولد السيده والحسين ويقوم كل بيت بعمل الفول النابت واللحمه لتوزيعها على زوار السيده والحسين وكل من له ندر يقوم بتقديمه خلال ليالى المولد وأمى كانت كثيرة الندر بمناسبه وبدون مناسبه وغالبا مايكون عيش وفول نابت وفى الندور الهامه يكون عيش ولحمه وتذهب بنفسها لتوزيعها على أهل الله وفى أحد المرات عادت بدون جزمتها وطرحتها فقد هجم الشحاتين عليها وخطفوا الندر والجزمه وكيس النقود أن هى بعد ذلك تبطل... بالطبع أستحاله فهى عادة متأصله فى ولاد البلد
وتنعقد حلقات الذكر والأنشاد الدينى فى كل حارة من بعد صلاة العشاء وحتى الفجر وبالقرب من مقام السيده تجد المراجيح والسيرك والشيكا بيكا والبنت أللى بتطير فى الهواء وحلقات الحديد والنيشان وفتح عينك تاكل ملبن وغيرها من مسارح الرقص البلدى للست ألماظيه ..والأراجوز وصندوق الدنيا
عم حسين المطاهر
يتبارك المصريين بأجراء الختان فى الموالد ففى كل مولد تجد المطاهر ويقف أمام دكانه أو خيمته طوابير من السيدات مصطحبين أطفالهم فى جلاليب بيضاء صبيان وبنات وعم حسين شغال زى القشاط فالطفل لا يأخذ فى يده ثوانى معدودات وتسمع بعدها الزغاريط ويخرج الطفل وهو يربط على زراعه اليمين شاشه بيضاء بها ماتم بتره ويقف بالقرب منه بائع العرقسوس لينعم بشوب خمير جميل يلهيه عما به من أوجاع .. وتجرى حفلة ختان للأطفال تقدم فيها الحلويات والنقوط ويظل يمشى متباعد الساقين حتى يشفى تماما ويعلم الأهالى بشفائه عندما يفتحون الشاشة المربوطه على زراعة ليجدوا مابها قد تحلل
وعم حسين المطاهر قام بختان أبناء الحارة كلهم وأبنائهم وأحفادهم .. فالمتيسر منهم يحضره فى البيت وأللى على قده يحضر فى الدكان ومن الغريب أنه عندما يحضر لختان البنات يأتى فى الصباح الباكر أما الولاد ففى أى وقت وغالبا مايتم الختان الجماعى فى البيوت ثم بعدها يقدم للمطاهر مرقة ولحم الكتكوت أو الفراخ البداره ليستعيض بهما الدماء التى فقدها وتساعد على سرعة ألتئام الجرح..الختان عاده مصريه قديمه جدا منذ آلاف السنين
الزفاف وليلة الحنه
ليلة الحنة عندنا هنا فى مصر بتكون ليلة جميلة جدا فالفرحة بتكون فى البيت كله و طبعا بتكون ليلة مميزة لكل عروسة
فى الليلة دى بيجتمع اصحاب و صديقات العروسة و اقاربها و جيرانها و معارفها
من البنات و النساء و يحيطوا بها و يغنولها الاغانى الشعبية المرتبطة بهذه الليلة و الموجودة فى الفولكلور الشعبى عندنا و خاصة اغنية
يا حنا يا حنا يا حنا يا قطر الندى
ويتم تقديم واجب الضيافة للمدعويين من الاكلات و المشروبات و بتختلف انواع الاكلات من عائلة لاخرى منهم ما بيستعد لاعداد الطعام قبلها بليلة وغالبا مايكون الكسكسى و بيكون الاكل بيتى يعنى من صنع ايديهم و بعد ذلك بتحمل ام العروسة صينية عليها الحناء
و بيختلف طريقة وضع الحناء على الصينية فممكن وضعها داخل الصينية بشكل عادى او من الممكن صنع منها بعض الاشكال
ثم يأتى دور الحنانه وهى أمرأة سودانيه تقوم برسم الحنه للعروسة وصديقاتها
يتبعها الطبل والرقص والغناء
أما العريس فيجتمع مع أصحابه ويذهبون إلى الحمام البلدى الذى يزيل أوساخ وقشف السنين يرجع بعدها إلى لونه الذى خلقه به ربنا وكذلك العروس تذهب للحمام للأستعداد لليلة الزفاف
وتذهب النساء فى الغالب للحمام فى مناسبات محدده وتكون قبل الزواج وبعد أكمال أربعين يوما بعد الولاده وقبل الأعياد الدينيه أو بعد الشفاء من مرض عضال..وأستعيض عن الحمام البلدى بالسونه ولكن من سيقوم بتلييف ودعك الجسم غير البلانه التى أختفت مع الحمام البلدى
عنزة السيده نفيسه فوق المأذنه
وتجلى العذراء فوق الكنيسه
فى حارتنا المصرية تنتشر كثير من الأساطير والخرافات وقصص الجن والعفاريت والكنوز التى تفتح على يد السحره والأفاقين والحارة بما تحتويه من ناس بسطاء بيئة طيبه تنمو فيه الخزعبلات وتظهر قصص غريبه وساذجة عبر التاريخ بين حين وآخر.. تؤكد طيبة وتدين المصريين ولجؤهم إلى الغيبيات عندما تشتد بهم المحن و الملمات
وهذه القصة كما ذكرها الجبرتى تقول أن سكان القاهرة أنتشرت بينهم أخبار تؤكد ظهور عنزه صعدت المأذنه لمسجد السيده نفيسه وهى تكلم الناس وتدعوهم لفعل الخيرات وتبدأ الحكاية عندما كان عدد من الجند المصريين قد وقعوا فى أسر الفرنجة فقرروا أن يدعوا الله ويتقربوا لأهل البيت بالدعاء ونحر عنزه للسيده نفيسه.. فرفض السجان الرومى هذا وأخذ منهم العنزه وفى الليل تجلت له السيده نفيسه فى المنام أن يفك أسرهم حتى لا يقع له مكروه فى نفسه وأهل بيته وفى الصباح أطلقهم ورد لهم عنزتهم وأعطاهم بعض المال ليعودوا لوطنهم بعد أن شاهد العنزه وهى تتكلم وتأمره بذلك ..وعاد الجنود إلى مصر وذهبوا بالعنزة إلى مسجد السيده نفيسه وهم يحتفلون بعودتهم وأستقبلهم الشيخ عبد اللطيف وهو من خدام المسجد وأكد على صدق روايتهم فسلموه العنزه وربطها فى غرفة ونسج حولها القصص والأقاويل وبأنها عنزه مباركة من يطعمها ويكسيها يفتح له الله الأبواب المغلقة ويرزقه من حيث لا يحتسب وأن هذه العنزة تصعد لأعلى المأذنه فى صبيحة كل يوم جمعة وهى تدعو لله لمن اكرمها .. وكان رجلا خبيثا فقد أعلن بأن العنزة لا تاكل ألا اطايب الطعام والسكر والفستق المقشر وتشرب ماء الورد فأمتلئت خزائنه بأطايب الطعام والحرير والقلائد ووضع تسعيرة لكل من يريد رؤية العنزه أبتداءً من الرؤيه وأنتهاء بالمسح على جسدها المبارك وكل بثمنه وتسابقت الأميرات فى عمل القلائد الذهبيه لترتديها عنزة الشيخ عبد اللطيف
وعلم الأمير عبد الرحمن كتخدا بالأمر وكان رجل حازم.. فأرسل فى طلب الشيخ عبد اللطيف حتى يتمكن الحريم فى قصره بالتبرك بها ..فسعد الشيخ وحمل العنزه فوق بغلته وسار خلفه حشد كبير من مشايخ الطرق الصوفيه والمشعوزين والزمر والطبول والبيارق والدفوف حتى قصر الأمير المجاور لمسجد أحمد أبن طولون ودخل القصر وهو فخور فأجلسه الأمير بجواره وأستسمحه فى حمل العنزه إلى جناح الحريم فوافق وهو سعيد ولكن العنزه حملت إلى الطباخين الذين قاموا بذبحها وطهيها وتقديمها فى سماط كبير أمام الأمير وحاشيته ودعى الشيخ عبد اللطيف للطعام وأكل معهم وهم يزيدون فى أكرامه ليأكل أكبر قدر من لحم الماعز
وعندما أنتهى من طعامه طلب المعزه ليعود إلى المقام والمريدين فرد عليه :أى معزه يارجل فقال: المعزه المباركة التى فى غرف الحريم.. فضحك الأمير وقال أنها فى بطنك الأن أيها الفاسق الفاجر وأمر غلمانه بضربه 60 عصى على قدميه وأمر بجلد العنزه وطرحوه على عمامته وأخذه الجنود وطافوا به شوارع القاهرة ليكون عبرة لكل نصاب محتال .. وهذا مايحدث فى هذه الأيام بأدعاء البعض برؤية السيده العذراء مريم وهى تتجلى فوق برج الكنيسه مره فى الزيتون ومره فى مارى جرجس ومره فى المطريه وأخرى فى أسيوط ويتجمع الماره من جميع أنحاء القاهرة لمشاهدة هذا التجلى المزعوم الذى لم تنفيه أو تؤكده الكنيسه ونسأل أنفسنا سؤال بسيط لماذا ظهرت العذراء عندنا نحن بالذات دون سائر كنائس الدنيا من شرقها لغربها
عارفين ليه ؟؟ لأننا فى مصــــــر بلد العجايب والأساطير
الحلقة رقم (8)
لعب عيال
أطفال الحارة غالبا ما يصنعون لعبهم بأيديهم فلعب الأطفال ترف لا يقدر عليه ألا أولاد الأغنياء ولكننا فى الحارة نبتكر ونتفنن فى صنع لعبنا بأيدينا من مواد بسيطه متيسره لا تكلفنا سوى ملاليم قليله فنصنع الكور الشراب المليئه بالأسفنج والمغطاه بمادة الكوله ..ونصنع الأسكوتر الذى كنا نسميه بالعوامه وهو من الخشب ورومان البلى الذى نشتريه من الروبابيكيا ونصنع الطائرات الورقيه المصنوعة من ورق الجرائد أو الورق الملون والبوص أو الغاب ونصنع سنانير الصيد لنصطاد بها من النيل ونصنع السينما الصامته وهى تتكون من ملاية بيضا ونجلس خلفها بعد أن نقوم بأظلام الغرفة ونحرك خلفها أشكال كرتونيه رسمنها وقصناها بأيدينا ونسلط عليها ضوء شمعة داخل كوز صفيح به ثقب صغير فتظهر على الشاشة فى شكل صور سوداء ونحن نحركها ويرافقها صوتنا كموسيقى تصويريه وصنعنا كراسى وغرف نوم من أغطيه زجاجات المياه الغازيه حتى فوانيس رمضان أبتكرنا أشكال عديده منها..كان الأطفال يتعلمون من بعضهم هذه المهارات وكانت البنات يصنعن العرائس من القماش والقطن ويتبارين فى تزويق العرائس وتلوينها ويصنعن لها سرير من جريد الأقفاص بمرتبة ولحاف وتفصيل الفساتين الجميله لها..ولو جلست متخفيا وأنت تتفرج على البنات فى لعبهن ستستشف من لعبهن الحياة الأسريه الحقيقية التى تحياها أمهاتهن داخل البيوت بتقليد ومحاكة متقنه..ولم تكن اللعب هى فقط التى يلهو بها الأطفال فقط بل توجد لعبات جماعيه يلعبونها سويا مثل عسكر وحراميه والقطه العاميه وصيادين السمك وكيكا ع العالى والأستغمايه وتشترك البنات مع الصبيان فى اللعب البرىء ولهن العابهن الخاصة مثل الحجله وتمثيل دور الستات ودور الأم القاسيه ودور العروسه ولكن كان أجملهم لعبة عروسه وعريس وهى أن تمثل أحدى البنات دور العروسه وأحد الولاد دور العريس ويقوم باقى الأولاد بزفهن كما يشاهدن فى الأفراح وفى أحدى المرات كنت ألعب دور العريس وهو الدور المحبب لديا وأجلس أنتظر العروس فوق درجات السلم وكانت العروسه المختارة فى هذه المرة بنت صغيرة أسمها جميله وهى جميله فعلا..التى دخلت غرفة نوم أمها ووضعت أحمر فى شفتيها ولبست حذائها وربطت رأسها بمفرش تل مثل الطرحة وخرجت والولاد يزفونها بالطبل والتصفيق وأنا أجلس فى أنتظارها وأنا أضع لفافه من الورق على شكل سيجاره بين أصابعى وراسم شنب بهباب وابور الجاز وتجلس جميله بجوارى ونمسك فى أيدين بعض والولاد يزفوننا وكان عمرنا لا يتعدى الخمس سنوات وهى تتقمص دور العروسه المكسوفه والولاد والبنات هاتك ياطبل ورقص وزغاريط ألا ونفاجأ بأبو جميله وهو يقف بيننا وهو يسحب أبنته من شعرها ففزع الأولاد وتفرقوا وجلست فى مكانى وأنا خائف منه ولم أستطع أن أرمى السيجارة الورق من يدى فسحبنى أنا الأخر بعد أن ترك أبنته تجرى على شقتهم وأخذنى وطرق باب شقتنا فتفتح له الوالده فيشكو لها من تصرفى المخزى وجلوسى بجوار أبنته ممثلا دور العريس ومسك يدها والسيجاره التى أضعها بين أصابعى .. طيبت أمى خاطره وأفهمته أمى بأنه لعب عيال ولا داعى لهذه الضجة .. ولكنه كان ثائرا قائلا : لمى أبنك ياهانم ده بدايه لبلاوى جايه كتير أنا عارفها.. فلم تجد أمى من حل سوى أن تقول له : خلاص يا أبو جميله نجوز جميله للواد لما يكبروا وماتزعلش نفسك ..فتركها ولم يرد فسحبتنى للداخل وهى تعنفنى وتقول : دى قلة أدب أمشى ياواد أسل وشك من الهباب والمسخرة دى مش سبق ونبهت عليك ماتلعبش مع البنات وماتلعبش لعبة عروسه وعريس لما ييجى أبوك حقوله على سفالتك وأجرامك .. وتناقلت ألسن سيدات البيت حكايتنا فى جلسات السطوح ومن خلال الشبابيك ومافعلته جميله بنفسها من مكياج وهن يضحكن ويغنين لأمها المستغرقة فى الضحك هى الأخرى وهى تحتضن أبنتها الصغيرة أغنية فريد الأطرش جميل جمال ..أما جميله فقد عوقبت عقابا شديدا من والديها وحرمت من اللعب معنا لفتره طويله حتى قابلتها يوما أمام باب شقتها وهى تلعب فقالت لى بكل برائه هو صحيح زى ما مامتك قالت أن أحنا لم نكبر نتجوز ؟؟
أهو لعب عيال.. أطفال زمان كانوا يتمتعون بخيال خصب وحب للقرائة فلم يكن فيه تليفزيون أو بلاى أستيشن أو أتارى فكنا نذهب إلى شارع يكثر فيه باعة الكتب والمجلات القديمه ويشترى كل طفل مجلة أو قصة بخمسة مليمات ونتبادلها بيننا ثم نعيدها لنفس البائع بنصف ثمنها ونشترى غيرها وهذا مما جعلنا نقرأ الكثير من القصص والكتب بأقل التكاليف ثم نجلس على سلم البيت نحكيها وعندما كبرت ووصلت للصف الأول الأعدادى أشتركت فى أكثر من مكتبه عامه بنظام الأستعاره المنزليه أهمهم دار الكتب المصريه فى باب الخلق والمكتبه الأمريكيه فى جاردن سيتى وأستطعت أن أستعير الكتب والقصص وأبادلها مع الأصدقاء حتى قمت بأنشاء مكتبه خاصة بى أجمع فيها مجلدات سمير والسندباد وجميع القصص الصادرة من مكتبة كامل الكيلانى للأطفال .. وكانت السينما هى قبلتنا التى نحوش من أجلها من مصروفنا لنسعد بها كل أسبوع وكانت أفلام أسماعيل ياسين هى المفضله لدينا وعندما كبرنا كنا نشاهد الأفلام الأمريكيه للكاو بوى والأفلام الخياليه والميكى ماوس ثم نعود لبيوتنا لنمثل دور جيتا وطرزان والشجيع الذى يركب الحصان ويطلق آلاف الطلقات بعد أن نصنع مسدسات من ورق ليكتمل المشهد ونربط مناديل على وجوهنا لنمثل أفراد العصابه.. كنا نلغب بحرية تامه داخل حارتنا وفى آخر النهار نستحمى ونغير هدومنا ونتعشى ونأوى إلى الفراش لننام على حدوته تحكيها لنا الوالده أو أحدى الأخوات الكبار
هذا الجو الثقافى والترفيهى الذى كنا نعيش فيه - سوف تستغربون - لو علمتم بأن الأسرة ليس لها دخل فيه بل الحارة وأبناء الحارة التى أنجبت أفضل الرجال وفضليات النساء وأشهر الفنانين والرياضيين والأدباء الذين عاشوا وأستمتعوا بطفولتهم على حق دون زيف .
القلة والزير والزلعوكة
أوحى لى بفكرة هذه الحلقة أخى الرائع شخص مصرى عندما تسائل عن كيفية حفظ الطعام وشكل السكر زمان والحياة اليوميه فى داخل البيت المصرى
القلل القناوى : كان لا يخلو بيت من القلل القناوى التى كان يطوف بها البياعين وينادى عليها وهو يغنى( الجلل الجناوى) على أيقاع الطبله فتهرع إليه النساء والأطفال لشراء القلل ..وهى تنقع فى المياه لمدة يومين قبل أستخدامها .. والقلل فى البيت المصرى كان لها صنيه من النحاس المنقوش اللامع توضع على أفواه القلل غطيان نحاسيه تدعكها ست البيت بالرمال وتراب الفرن لتزداد بريقا ولمعانا وتوضع فى زور القله عيدان النعناع أو الريحان أو يضاف للماء ماء الورد .. وماء القله بارد قراح لا هو حار أو متجمد مثل الذى نشربه من الثلاجة فهو يروى العطشان على حق وهذه كلمات أغنية سيد درويش وهو يغنى للقلل القناوى
شوف كلام فنان الشعب ومعه اللحن المتميز البسيط الذى أستوحاه من الحارة
مليــــحة قوى القلل القنـــاوى... رخيـصة قوى القلل القنـــاوى... قــرب حــدانا وخد قلتــــــين... خســارة قرشك وحيـــــاة ولادك... ع اللى ماهواش من طيــن بـلادك... ده ابن بلــــــدك ما يبلفـــــــكشى... ما تعـــــدموشى ولا يعدمـــكشى... دمك من دمه ما يفرقكوا شى... الدنيـــــــا مالها يا زعبــــــلاوى
شـــقلبوا حـالها وين المـــــداوى... شوفوا البـلاوى ده البنـــك ناوى... يرفــع دعــاوى علشـــان يتـاوى... فى فلوسنا واحنا متقندليـــــن... مش بزيــــادانا بقيـــــــنا عـرة... وكل حــــــاجة من شــغل بــره... ده الفقــر طول قلــــع عينيــــنا... وخلا غيـــــرنا قلــس عليـــــنا... يادى الفضيحة يا ناس حرام...
ولحــــــد ميـتى ما نفوقش واصل... انتعـــــنا بقى يا جـد الحسين..
وأغنية : البحر بيضحك ليه وأنا نازله أدلى أملء القلل
ويأتى بعد القلل الزير وله حمالة خاصة ويوضع فى مدخل الدار ويملء يوميا بواسطة السقا لعدم وصول المياه فى بعض البيوت وطعم مياهه سكر وتكون فى فصل الصيف معكرة بطمى النيل فتوضع بالزير نوى المشمش والشبه البيضاء
لترويقها من العكارة ..زمان الماء كان له طعم جميل ويذهب الناس فى شم النسيم ليشربوا ويستحموا فى النيل ويقولون أنه الماء الجديد الذى يشفى العليل ويعدل صحة المريض فليس غريب على القدماء أن قدسوا النيل والأحفاد من بعدهم يلوثوه بالصرف الصحى والصناعى والحيوانات النافقه
أما حفظ الطعام : فربة البيت تطبخ بقدر وبحساب ولا تبيت لها حلة بها بواقى طعام ولو أستدعى الأمر لوضعت فوقها غطاء هرمى من الخوص ( مكب) وتتركه فى الهواء الطلق .. وبما أن الهواء فى ذلك الوقت نظيف وغير ملوث فيبقى الطعام دون فساد ليغلى ويقدم ساخنا فى اليوم التالى ..أما اللحم فيشوح فى السمن ويترك حتى يتجمد السمن حوله ويرش من فوقه الملح ليظل بحالته
أما السكر فنحن من أوائل الدول التى أنشأت مصانع تكرير السكرفى أدفو منذ عام 1907 بواسطة عبود باشا بالقرب من زراعات القصب ودخل السكر الأبيض البيوت المصريه منذ مائة عام وأستخرج من المولاس السكر الأقماع وهو لونه عسلى ويباع للفقراء والفلاحين لرخص ثمنه
الزلعوكه : فهى تشبه البلاص وأقل منه فى الحجم وتدهن من الداخل والخارج بماده زجاجيه وتحرق فى الأفران لتعطى ملمس الصينى المعروف وتستخدمها ربة البيت فى حفظ السمنه البلدى والقشطه والزبده ولم نعرف السمن الصناعى ألا فى الستينات من القرن الماضى وكان فيه أغنيه بتقول البت بيضا بيضا شايله السمنه فى الزلعوكه
زمان كان الخضار والفاكهة المصريه لها طعم تانى فلم تكن مصر تعرف المبيدات أو الهندسة الوراثيه التى جعلت الخوخه فى حجم البرتقالة والمشمشه مثل الكوره الكاوتش والأرض المصريه عفيه تتجدد كل عام بفضل الفيضان الذى حجزه السد العالى منذ عام 1968 .. وعندما تقوم ست البيت زمان بعمل ملوخية مثلا فأنت تشم رائحتها الجميلة وطشتها من آخر الشارع .. مصر هى الخير كله
أفسد أبنائها الجاهلين هوائها وأرضها وصدروا خيرها .. ويكفى مافعله يوسف والى فى الزراعة التى تولى أمرها لمدة 22 عاما .. فمصر لم تعرف الأورام والفشل الكلوى ألا فى عصر هذا الرجل ... ده كويس أن أحنا عايشين
الحلقة رقم (10 )
نهاية الحلم
توفى صاحب البيت الذى كنا نعيش فيه والذى شهد اجمل ذكريات الطفوله وآلت الملكيه إلى الورثة وتنازعوا على ورثهم وفى النهاية باعوة لأحد الجزارين الذى كان له مطمع فى مساحته الكبيرة وبدأ فى البناء فى حوش المنزل بالطريقة الحديثة منزل من أربع أدوار ولم يكتفى بذلك فقام بتقسيم الصالات الملكية إلى غرف عديده بدورات مياه مشتركه وغرف بالخشب فوق السطوح وفتح فى جدران المنزل المطله على الشارع عدد من الدكاكين وأستبدل السلالم الأرو والزان بسلالم حجريه رديئه وحول هذا القصر الأثرى إلى ربع بداخله ورش ومخازن وفى النهاية قام بتشويه عظمة هذا البيت وفخامته جريا وراء المكسب المادى الرخيص
وكان والدى فى هذا الوقت يسعى لشراء بيت من بابه بالقرب من المنطقة التى أحببناها يعادل فى جماله هذا البيت ولكن للأسف لم يجد ألا فى مناطق بعيده عن مقام السيده والحسين وأخيرا وجد ضالته فى بيت لا يبعد كثيرا ولكنه مبنى بالنظام الحديث بالخرسانة والطوب الأحمر والأسقف المنخفضة فرضينا به بدلا من الأبتعاد نهائيا عن هذا الحى العريق ولم يمضى عام ألا بلغنا بوفاته فى داخل جامع السيده زينب وهو يؤدى صلاة العشاء
أكملنا المسيرة فى التعليم وتزوج من تزوج وسافر من سافر ولكن بيت أبى مازال كما هو على حاله رغم العروض الهائلة التى قدمت لنا لبيعة ولكننا لم نبيعة فهو محطتنا التى نخلد إليها عندما يدفعنا الشوق لزيارة منطقتنا وجيراننا والأماكن الجميله التى قضينا فيها طفولتنا وشرخ شبابنا
وعندما يهفنى الشوق إلى الماضى أخطو على قدمى لهذه الأماكن وأنا ابكى على الأطلال وألعن غباء وجشع الأنسان
ومن الغريب أن البيت القديم المبنى منذ مئتان عام أو أكثر مازال قائما والمبنى الذى أقامه الجزار بجشعة قد تهدم فى زلزال 1992 والمبنى القديم مازال يقف شامخا يشهد بعظمة وعراقة التاريخ
كنت أتمنى أن أستمر فى سرد باقى الذكريات ولكنها دخلت فى مرحلة البلوغ والشباب والكفاح والفشل والنجاح فعذرا أصدقائى ونكتفى بهذا القدر وإلى لقاء
فى عمل جديد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق