عاش إدوارد
لين حياة المصريين وارتدي زيهم وجاور عمائرهم الأثرية حتي أنه كان يقيم في إحدي
المقابر الأثرية بجوار منطقة الأهرامات وأبو الهول والتي كانت تعرف بالأمس مثل
اليوم بمنطقة نزلة السمان، يصف لين المكان يوم 17 ديسمبر 1825 حيث ذهب بصحبة
خادميه محمد وحسن، منبهرا ومشدوها بعظمة وشموخ الأهرامات الثلاثة التي أطلت علي
السهل الخصيب أسفلها وقد غمرته مياه الفيضان. وكان إدوارد لين قد عزم علي البدء في
مخطوط كتابه القيم وصف مصر ويصف لين المقبرة الأثرية التي عاش فيها بأنها كانت
مقبضة بعض الشيء، ثم بعد كنس الأرضية وفرشها بسجادة ومرتبة وعلي ضوء شمعة بدا
المكان أكثر حميمية مع وجود البايب الخاص بي وأشيائي الخاصة معلقة علي مشاجب في
الحائط، وخارج الباب صنعت لي مساحة أمامية متسعة شرفة ظليلة كانت تحيد عنها الشمس
فأجلس فيها (يوم الكريسماس) لأدخن وأشرب قهوتي الصباحية. أما مظهره في تلك الفترة، فكان ملائما لمزاجه وحالته
المعيشية، حيث فضل أن يرتدي ملابس البدو الفضفاضة التي أتاحت له سهولة الحركة داخل
الأهرامات والمقابر، كما فضل أن يسير حافي القدمين حيث وجد ذلك أفضل في الأرض
الرميلة التي تملأ مدخل الهرم الأكبر وبعد أيام قليلة وجروح سطحية في قدمه، أصبحت
قدماه محصنتين ضد أقسي الأحجار، وقد عزل لين نفسه بسهولة من حياة المدينة القاهرية، وتحصن بالمؤن والأغذية كالبيض واللبن والزبد ولحم
الجمال وهي الأشياء التي اشتراها من القري المجاورة والتي كان أقربها يبعد عن مقره
التاريخي بنحو ميل واحد. وكان إذا احتاج للخبز يؤجر من يخبزه له، وكان بمقدوره أن
يحصل علي الأشياء الرفاهية ولكنه خشي أن تلهيه الرفاهية عن عمله.
إدوارد
لين الحلقة الثانية ( مؤلفاته ) وقد قام إدوارد لين ياستئجار اثنين من رجال البدو من أقرب قرية كي يناما عند باب المقبرة التي يعيش فيها تحسبا لهجوم بدو آخرين عليه.
وقد اطلع لين علي سيرة أبوزيد الهلالي أو السيرة الهلالية من بعض رواتها علي مقاهي القاهرة ومن أحد الجنود الفارين من جيش محمد علي باشا والذي لجأ طالبا الإقامة معه في المقبرة الأثرية حيث كان لين يسمعه كل مساء ينشد مقاطع من السيرة الهلالية التي اعتبرها لين ذات ميزة أدبية معتبرة وهي برأيه سجل للسلوك والعادات البدوية، وقد كتب لين فصلا كاملا عن السيرة الهلالية في كتابه »المصريون المعاصرون«. إلا أن بقاءه في المقبرة الأثرية، وطوافه اليومي المتجدد بمنطقة الأهرامات ومايحيطها من مصاطب ومقابر مكنت إدوارد لين خلال أسبوعين من العمل المكثف من رسم خريطة لكل الموقع ورسم لوحات عديدة أكثرها شديدة الجودة، كما قام بقياس دقيق لكثير من الآثار وقام بتجهيز وصف تفصيلي للأهرامات الثلاثة الكبري الأساسية وأبو الهول واختبر عدة مصاطب مهمة في الجبانة الشرقيةوالغربية والمقابر المنحوتة من الحجر خلف أبو الهول وقد جاءت النتيجة متفوقة علي ماسبقها من تجارب غربية في مجال علم الآثار المصرية وبالتحديد الموسوعة الفرنسية التي تحمل وصف مصر أيضا.
وكان إدوارد لين معنيا جدا بالآثار المصرية القديمة وكان عند بداية قدومه إلي مصر يكرس أكثر من نصف وقته للآثار الفرعونية ولإنجاز كتابه الثري وصف مصر إلي جانب اهتمامه أيضا بالمجتمع العربي المعاصر وباللغة العربية التي مكنته من إنجاز ألف ليلة وليلة. وقد كان لين مولعا بالحضرة المهيبة لمشهد الأهرامات فوق التل الشامخ، وكان يذهب مع بزوغ الفجر قبل انفراج الضوء وتوهجهه إلي الهرم الأكبر بصحبة خادمه، ليشهد غروب القمر وشروق الشمس علي الجسد المهيب للهرم الأكبر حيث تكون الرياح قوية والصقيع شديدا لكنه يصمد لأجل سحر اللحظة.
من القاهرة إلي النوبة.. من مصر الفرعونية إلي القاهرة الشعبية.. فتح إدوارد ويليام لين عقله وقلبه للحضارة السخية بمعابدها وأهراماتها ومآذنها وكنائسها ليضع أكثر كتبه أهمية عنها، بعين عاشق مبهور يسكب السحر في قلمه ليسبي الأفئدة وينقل فضل الثقافة الشرقية بترجمة رفيعة للنص العالمي الأبهي: ألف ليلة وليلة حيث در الحكي وألقه البراق.. ولتكون إنجازاته جسرا للتواصل بين الحضارة الشرقية والغربية بوعي وتنوير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق